أدمنتُ أسئلةَ النبيذِ، وقلتُ في
سريّ، سأتبعُ رشفةَ الكأسِ الأخيرة،
كيفَ ترمي في دمي مدناً من الأحلامِ والأسماءِ،
كيفَ يعرِّشُ الجسدُ القصيدةُ في سمائي
صبوةً، لأدورَ خلفَ سؤاله نجماً
كما دارتْ بذاك الدربِ يوماً
زهرةُ العبَّادِ، أو مثلَ الصدى ليلاً،
لأسمعَ صرخةَ العشاقِ،
نعناعَ التلاقي، شهوةَ الأيدي،
وأنَّ الأرضَ قد تُدني جمالَ القولِ
من شفةِ الطبيعةِ، حين ترمي
سحرَها فوقَ العنبْ.
لكنها فتحتْ مرافئَ رحلتي نحو الدموعِ،
وما تبقى من صدى الآهاتِ، تجرحُ عطرَ
هذا الليل منهاراً، ليهرب نحو سجنٍ آخرٍ
يرمي سرابَ الأرضِ، والأرضُ يكويها اللهبْ
فجريتُ للفجر المسجَّى خلفَ نافِذَتي
لأبصرَ دربَ هجراتي على صَدَفِ التعبْ
فإلى متى تبق الطفولةُ فجرَ روحي،
كي ترِّممَ ما تراكمَ فيَّ من قهرٍ
وما صارت فصولي فوقَ أطيافِ العطبْ
ما جئتُ من صلبِ الشكاوى
كي أُمارسَ طقسَها،
لكنها مدنُ المرارةِ، ترتدي في
روحنا ثوباً، يزنِّرُ بالدموعِ دروبَنا
فتظلُّ أيامُ الشتاتِ تحوكُ
هذا الوقتَ في لغةِ المجالسِ.
والقصائدُ تهتدي بالنوحِ جيلاً بعد جيلٍ
ثم ترفو روحَها بدمِ القصبْ
يا منْ يقولُ لروحيَ السكرى،
كفاكِ اليومَ إظلاماً
وهاتي ما تخبأَ في كلامِ الأمهاتِ
صباحَ عيدٍ، ما تداورَ في يدِ الأبِ
ذلكَ البدويِّ من عطرِ الحنانِ،
وما تهامسَ في عيونِ الأختِ
من فيضِ الفصولْ
يا منْ يقول ولا يرى سببَ الذبولْ
اليومَ عتَّمَ روحّنا خوفٌ بكاءٌ
فانثنى قربَ التمني رحلةً
لم يتقنِ الأدوارَ في زمنِ الجنونْ
ظلَّتْ يداه تلوّحانِ إلى المسافةِ
والمرافئُ تهجرُ البَّحارَ في هذي السجونْ
الآنَ أهمسُ للنشيدِ ببعضِ سرِّ الكأسِ
يشعلُ راحتي، وتدورُ صائحةً بلا خوفٍ،
فقد آنَ الأوانُ لأكشفَ المخبوءَ
في جرحِ السببْ
فلقدٍ تكدَّسَ في العيونِ خسارةٌ
تلو الخسارةِ فوقَنا، حتى تهشَّمَ روحُنا شمعاً
يُشعَّلُ في الزواريبِ العتيقةِ،
صارت الأرضُ الحبيبةُ في عيونِ
العشقِ، حتى قُطِّعتْ من كل صوبٍ
تلكَ رائحةُ الشمال تغيبُ عنا
ويغيبُ في الروح الجنوبُ
حتى إذا انتبه الكلامُ إلى الحقيقةِ
صاغنا جرحاً لأصواتِ السنينَ
مآذناً كبرى لأعراس العيونِ
وللطيورِ تساقَطَتْ قربَ الحدودِ
تُضيءُ أصواتَ العتبْ
اليومَ أفتحُ من صداها صوتَ ذاكرتي مدى
ما أبصرتْ دنياي من كهفٍ يداخلُ
في كهوفٍ، ما ارتدى برجُ العذابِ
ضريحَ أزمنتي البعيد
وما تبقى من هديلٍ فوقَ أسئلتي
على جرحِ القصائدِ،
ما ترامى من نحيبِ يحتمي في الظلِّ
صبحاً، ثم يغردُ صوتَه فوق المساءِ
بكلِّ صوتٍ منشداً تلكَ الطلولْ
ليكونَ ذاكَ الدربُ مُفتتحَ اللغاتِ،
وكيف خطَّتْ أصبعي إسماً بقربِ القلبِ
والسهمِ الذي رسمَ الدماءَ على النوافذِ،
وارتدى فجرَ الترقّب نازفاً،
والوقتُ مفتتحُ الجنونْ
يا من رأى قلبي يراقبُ كلَّ دربٍ
يحتسي وجهَ التأملِ من صباحِ
الله، حتى يكتسي ذاكَ البعيدُ بعادَه،
والخمرُ تُدركُ ظلمةَ الأوقاتِ،
ترمي للخيالِ بكاءَه،
وتصيرُ مُفتَتحَ المدائنِ،
سرّة المحمَرَّ في أفقٍ حنونْ
حتى إذا جاء الصباحُ، نوافذُ الآهاتِ
وامتلأتْ بنورِ الحُرقةِ الأولى،
علينا قهرُنا صلّى
وراحتْ دورةُ الأيامِ تعصرُ
روحَنا بمدى الشجونْ
هل قلتُ: إنّا لم نكنْ غيرَ البياضِ،
فجاءَ هذا المدُّ كي تنمو براعمُ توقظُ
النايات في أصواتنا مدداً
فتغدو الأرضُ سردابَ النشيدِ
وقد تدلّى فوقَها سبعٌ من الحسراتِ
تكسوها ثيابُ الدمعِ مرآةً
يقود سفينَها حزنٌ الغصونْ
فإذنْ سنحملُ صخرةً ويظلُّ للتيهِ المعمّى
سحرُه، حتى يغيبَ عن المسارحِ
من تبدّى حارساً،
ثم ارتدى ثوبَ الطغاةِ
وكسّرَتْ أجراسُه لغةَ البراءة والفنونْ
حتى يعودَ إلى المدائن
عشقُها، ويصيرَ للنخل الجميلِ
شموسُه الحمراءُ صافيةً
بلا قهرٍ، ليرمي كلمةَ الآجر
من أحلام سومرَ في القداسةِ، ثم
سحرَ طقوسِ بابلَ في الشرائعِ
ما ارتدى ذاك البهاء جمالَه
فوقَ العيونْ
هذا دمي في آخر الهجراتِ
يرحلُ نحوَ وِحشته جفافاً قاتلاً،
ليكونَ ناياً يرسمُ الأوقاتَ،
أو حبراً يتابعُ ما تراءى من
سياجٍ حولَ أحوالِ الأصابعِ
وهي ترمي سرَّها فوقَ المتونْ
فيكونُ أن سَخِرَ المساءُ
من الأوامر، وارتدى وجهَ الخلودِ،
قصائدَ الإبداعِ في روحِ الفنونْ
اليومَ أُكملُ كأسيَ الأخرى
لأدركَ أن ميناءَ الخمورِ برحلتي
يمتدُ من أُفقِ البكاءِ مسافةً
ليصيرَ هذا الدمعُ غاباتٍ
من القصبِ المملَّح ثم يرمي فوقنا
وتراً وترْ
لأكونَ شاعرَه الموزعَ بين ظلِّ الناي
في قدحِ المساءِ
وظلمةِ الأكوانِ في هذا السحرْ.